الهَيكل العظمي، بالإضَافة إلى دوره المُتمثّل في توفير الدّعم الهيكلي، فقد أثبتت التجارب التّي تم إجراؤها مؤخرًا على الفئران، أنه يعمل واسطة بين مختلف الأعضاء والأنسجة، بما في ذلك الدماغ والكلى والبنكرياس، بواسطة الهرمونات.
“العظام، التي اعتبرت منذ مدة عضوًا ميتًا، أصبحت حاليًا أقرب إلى الغدّة، تقول “بيت لانسكي”، الباحثة في مجال العظام والمعادن بكلية هارفارد لطب الأسنان: “هناك الكثير ممّا يحدث بين العظم والمخ وباقي أعضاء الجسم، فقد أصبح العظم من أبرز الأنسجة التي تدرس في الوقت الراهن”.
كما أظهرت الدراسات وجود أَربعة هُرمونات في العظم تعمل كنواقل، ويُمكن أن يَكون هناك المزيد، وقد بدأ العلماء للتوّ في فك ما تعنيه هذه الرسالة لصحة الإنسان، ولكنّ التحقيق في عَمل الهرمونات ينبغي أن يوفر فهما أكثر دقّة فيما يخص كيفيّة تنظيم العضوية للسكر، الطاقة والدهون، وأمورًا أخرى.
من بين هُرمونات العظم التي تَعمل كرسل نذكر: الأوستيوكالسين، سكليروستين، عامل نمو الخلايا الليفية 23، ليبوكالين 2. وهذا الهرمون الأخير هو الذّي جذب انتباه العلماء، والذّي يَتمثل دوره في أنّه عامل لوقف الالتهابات البكتيرية، كما يعمل في الدماغ كعامل يتحكم في الشهية.
كان العلماء يعتقدون سابقا أنّ الخلايا الدهنيّة هي المسؤولة عن إنتاج هرمون ليبوكالين 2، لكن عند الفأر، تبيّن أن الَعظم يقوم بإنتاج ما يقارب 10 أضعاف من هذا الهرمون، أكثر ممّا تقوم به الخلايا الدهنية، هذا ما أظهره “كوستيني” وزملاؤه، أما بعد أَخذ وجبة طعام، يقوم عظم الفئران بضخ كمية كافية من هرمون ليبوكالين2 لزيادة مستويات الدم 3 مرات أكثر مما كانت قبل أخذ الوجبة. يقول “كوستيني”: “الدّور الجديد للعظام يتمثل في أنه غدّة صماء”.
أمّا “كليفورد روزين”، الطبيب المختص في العظام والغدد الصماء في مركز الطب الجزيئي بسكاربورو، فأوضح: “إنه من المنطق فيزيولوجيا أن هناك تفاعلات ثنائية الاتجاه بين العظم والانسجة الأخرى”، كما أردف: “يجب أن تكون هناك أشياء لتنظيم الموارد الضرورية لتشكيل العظام”.
فالعظام تقوم بتجديد أنفسها باستمرار، الخلايا المعروفة باسم “بانية العظم”، تقوم بتصنيع العظام، أما الخلايا الأخرى، المسمّاة بـ “ناقضة العظم”، فتقوم بتدمير العظم القديم. مع هكذا دورة، “يجب على الهيكل العظمي أن يحوز على بعض الآليّات التّي تسمح للجسم بأن يكون متزامنا مع ما يحدث للعظم، يقر “روزين”.
لقد بدأ العلماء في استكشاف الرّسل الكيميائية منذ عقد مضى، حيث وجد عالم الوراثة “جيرارد كارسنتي”، من المركز الطبي لجامعة كولومبيا أن الأوستيوكالسين (المنتجة من طرف الخلايا بانية العظم) يساعد على تنظيم نسبة السكر في الدم. فالأوستيوكالسين الذّي يَتواجد في الدّم، يقوم بجمع الكَالسيوم وغيرها من المعادن التي يحتاجها العظم، وعندما يصل الهرمون إلى البنكرياس، فإنّه يَقوم بتأشير الخَلايا الصّانعة للأنسولين، بحيث تزيد في نسبة إنتاجها لهذا الهرمون، هذا ما أظهرته التجارب على الفئران. كما يعمل الأوستيوكالسين أيضا على تأشير الخلايا الدهنية، لإطلاق هرمون يزيد من حساسية الخلايا للأنسولين، يقر “كارسنتي”، إذا كان هذا الأوسيوكالسين يعمل بنفس الطّريقة عند البشر، فذلك يعني أنه يمكن استعماله لعلاج مرض السكري أو السمنة.
يقول “سنديب خوسل” ، عالم الأحياء في عيادة مايو كلينيك في روتشستر: “إن بياناتهم مقنعة إلى حد ما”، “ولكن البيانات في البشر لم تكن حاسمة”. في الدّراسات المجراة على الأشخاص، من الصعب القول أنّ الأوستيوكالسين يؤثّر مُباشرة على نسبة السكر في الدم، في حين أنه توجد العديد من العوامل المؤثّرة في ذلك.
وتشير البيانات الحديثة إلى أن الأوستيوكالسين قد يلعب دورًا في عملية الأيض، بعد حقن الهرمون في الفئران، لُوحظ أن الفئران المسنّة تَستطيع الجَري مثل الفئران الأصغر سنًّا، أما الفئران المسنّة التي لم تحقن بالهرمون، ركضت حوالي نصف المسافة فقط، هذا ما قاله “كورستني” وزملاؤه السنة الماضية.
كما أن هذَا الهُرمون يزيد من قدرة التحمل، فإنّه يُساعد العضلات على امتصاص المزيد من المُغذيات. في المقابل، تقوم العضلات باخبار العظام مرة أخرى بإنتاج المزيد من هذا الهرمون.
هناك تلميحات بأنّ هذا الارتجاع الايجابي يعمل عند البشر أيضا. حيث ذكر الفريق أنه لوحظ ارتفاع مستويات هرمون الأوستوكالسين في دم المرأة، أثناء إجراء تمرينات رياضية.
وتشير الأدلة من معمل “كارسنتي”، إلى أن الأوستيوكالسين يمكن أيضا أن يكون له تأثيرات أبعد، فهو يحفّز الخلايا في الخصيتين لإطلاق هرمون التستوستيرون (أساسي لإنتاج وزيادة كثافة العظام)، ويُمكنه أَيضا تحسين المزاج والذاكرة، هذا ما أظهرته الدّراسات على الفئران، قد تستخدم العظام الهرمون حتى للتواصل مع دماغ الجنين قبل الولادة، كما يُمكن للأوستيوكالسين المنتج من طرف عظام الفئران الحامل أن يَخترق المشيمة ويُساعد على تَشكيل ونُمو دماغ الجنين، لكن هذا لا يزال غير واضح.
رسول آخر في العظم يسمى بـ السكليروستين، وظيفته تتمثل في الحفاظ على نمو العظام عن طريق إخبار الخلايا ناقضة العظام لإبطاء أو وقف تشكيل العظام، ولكن العظام قد تفكك هرمون، لاستعماله كمصدر وقود مهم (الدهون).
في الفئران، يساعد الهرمون على تحويل الدهون البيضاء (أو “السيّئة”) إلى دُهون أَكثر فعاليّة في حَرق الطاقة، كما ذكر عالم البيولوجيا الجزيئية كيرتيك فولزيل من جامعة بوسطن وزملاؤه.
أوستيوكالسين، سكليروستين وLCN2 ، تقدم أدلّة غريبة حول كيفية التواصل بين العظام. هُرمون آخر، عامل نموّ الخَلايا الّليفية 23، أو FGF-23، قد يكون له تَطبيقات فورية في مجال الطب.
تستخدم العظام FGF-23 لإخبار الكلى بتحويل الفوسفات الزائدة، التي لا يمكن استيعابها عند الأشخاص الذين يعانون من الفشل الكلوي والسرطان أو بعض الأمراض الوراثية، بما في ذلك نوع من الكساح الموروث تسمى: (نقص فوسفات الدم المرتبط X)،
إذ أنّ مُستويات FGF-23 تَرتفع، ممّا يَتسبب في انخفاض مُستويات الفُوسفات، العظام الفقيرة لهذا المعدن تصبح ضعيفة وعرضة للتشوهات.
في حالة نقص فوسفات الدم المرتبط X، أو XLH، اختفاء أو عدم وجود مورثة على حالتها الطبيعية في العظام، تسبب في زيادة مفرطة في هذا الهرمون، فهدم المرافق الجُزَيئي لهذه المورثة قد يَكون أَسهل من إصلاحها .
في مارس، أكمل الباحثون، بالتعاون مع شركة الأدوية أولتراجنيكس، الجُزء الأوّل من المرحلة الثالثة من التجارب السريرية على البالغين المصابين بـ XLH – الاختبار النهائي للدواء قَبل موافقة الاتحاديّة، واختبر العُلماء أَجساما مضادة تتحد مع FGF-23، أخرى قبل أن تصل إلى الكلى، تشبه هيكليا بروتينات الكلى حيث تستقر FGF-23، والجسم المضاد هو “مثل فخ في الدم”، يقول لانسكي، الذي لم يشارك في التجربة: “في الوقت الذي يتصلان ببعض، يتم تقسيم هذا الثنائي من قبل الجسم”.
تقليديًّا، كان علاج مرضى XLH مثل محاولة ملىء حوض الاستحمام دون سدّه. يقول سوزان جان دي بيور، المحقق الرئيسي في التجربة السريرية، ومدير أمراض الغدد الصماء في جامعة جونز هوبكنز بيفيو ميديكال: “إنّ الكلى تتخلص من الفوسفور، ونحن نسكبها في الفم بأسرع ما يمكن حتى تتمعدن العظام”، مركز النجاح متغير، وغالبا ما تنشأ الآثار الجانبية المُنهكة من العلاج على المدى الطويل، ويَنبغي أن يُساعد العلاج بالأجسام المضادة، في استعادة قدرة الجسم على امتصاص الفوسفات.
تشير النتائج الأولية غير المنشورة إلى أنّ الأضداد تعمل، ومن بين 68 شخصا تناولوا الأدوية أثناء التجربة، فإنّ أكثر من 90 فى المائة منهم وصلوا إلى مُستوى طبيعي بعد 24 أسبوعًا من العلاج، وفقا لما أعلنه أولتراجنيكس في أفريل، كما أفاد الأشخاص الذين يتناولون الأجسام المضادة، أنّهم عانوا آلاما أقل من أولئك الذين لم يستعملوا هذا الدواء.
أوستيوكالسين، سكليروستين وLCN2، يُمكن أيضا أن تشارك في علاج الأمراض يومًا ما، إذا ما كانت النتائج الإيجابية على الحيوانات، إيجابية على الإنسان أيضا.
في دراسة نشرت مؤخرا في مجلة “الطبيعة”، وجد فريق كوستيني أنّ زيادة مستويات LCN2 في الفئران التي لا تمتلك الجين LCN2 ساعد على ضبط عاداتهم الغذائية، حتى في الفئران التّي تمتلك جينات LCN2 فعّالة، حَقن هذا الهُرمون أدى إلى خفض كميّة الطعام المتناولة، وتحسين مستويات السكر في الدم، وزيادة حساسية الأنسولين.
وتتبع الباحثون مسار الهرمون من الهيكل العظمي إلى ما تحت المهاد (وهو هيكل الدماغ الذي يحافظ على مستويات السكر في الدم، ودرجة حرارة الجسم، وينظم عمليات أخرى)، حقن LCN2 في أدمغة الفئران أدى إلى قمع الشهية وخفض الوزن. وبمجرد أن يعبر الهرمون حاجز الدم في الدماغ، ويصل إلى منطقة ما تحت المهاد، فإنّه يتثبت على سطح الخلايا العصبية التي تنظم الشهية، كما اقترحه الفريق.
الفئران التّي تمتلك مواقع تثبيت LCN2 معيبة على خلايا الدماغ، واكتسبت وزنا زائدًا تمامًا مثل الفئران التي لا تستطيع تصنيع هذا الهرمون، أصلا حقن LCN2 لم يكبح زيادة الوزن أو الشراهة في الأكل.(اثنان من الدراسات على الفئران من قبل مجموعة بحثيّة أخرى، نشرت في عام 2010، وجدت أن LCN2 ليس له أي تأثير على الشهية، ويقول كوستيني وزملاؤه: أنّ التناقض يمكن أن يكون ناجمًا عن اختلاف في أنواع الفئران المستخدمة من طرف المجموعتين، تجارب إضافية قام بها مختبر كوستيني، لا يزال يجد صلة بين LCN2 والشهية).
في مجموعة صغيرة من الأشخاص المصابين بداء السكري من النّوع الثاني، وجد البَاحثون أنّ الذين يزنون أكثر لديهم كميات أقل من LCN2 في الدم، كما وجد الباحثون، وكان عدد قليل من الناس، أن الذين لديهم مواقع تثبيت هرمون LCN2 معيبة في دماغهم، لديهم مستويات أعلى من هذا الهرمون في الدم .
إذا كان الهرمون يخفف الشهيّة لدى الناس، يمكن أن يكون دواءًا ناجحًا للسمنة، يقول روزين: “لا يزال من السابق لأوانه، إصدار أيّة إعلانات نهائية عن LCN2 والهُرمونات الأخرى، ناهيك عن الآثار الطبيّة”. يقول روزين: “هناك الكثير من الأشياء التي اكتشفنا أنّنا تجاهلناها، ولكن هناك شيء واحد واضح: عصر العظام كمتسابق صامت قد انتهى”.
المصدر: هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تدقيق: Amira Bousdjira
تعديل الصورة: Banan Shanou