عند سماع كلمتي نفس و جسد تظهر جليا للقارئ في الوهلة الأولى تمايزهما فكل منهما مستقل عن الآخر، لكن في حقيقة الأمر يوجد بينهما ارتباط وثيق و تبادلي فلا يمكن لإحداهما أن تعمل بمعزل عن الأخرى، و هذا التمايز و التكامل بين النفس و الجسد هو المادة الإجرائية التي يدرسها علم السيكوسوماتيك .
يعود الأصل اللغوي لمفهوم سيكوسوماتيك إلى اللغة اليونانية، و يشار إليه بكلمة مكونة من مقطعين Psyche Soma أي Psche تعني النفس، و Soma تعني الجسد أو الجسم، و في اللغة العربية علم النفسجسدي أو علم النفسجسمي .
ترجم هذا المفهوم إلى اللغة الإنجليزية Psychosomatic أما إجرائيا فيعد علم النفسجسدي أحد الاتجاهات أو الميادين في علم النفس الطبي ، الذي يركز دراسة تأثير على العوالم السيكولوجية في ظهور جملة الأمراض السوماتية (الجسدية)، كأمراض ( الربو ، ارتفاع ضغط الدم ، القرحة المعدية ، السرطان …الخ).
و حسب Von Uexrull فان علم السيكوسوماتيك هو العلم الذي يدرس دور الانفعالات و العوامل النفسية (كالضغوطات) و العوامل الاجتماعية في الإسهام بإحداث الأمراض، و يتبع شخصية المريض و احتمالات علاجه بالطرق النفسية . (1)
و قد اخترنا مرض السرطان كمحاولة منا للتعرف على بعض الأمراض ذات المنشأ النفسي، خاصة أن هناك من المرضى النفسجسديين ممن يعانون أمراضا ذات صلة واضحة بصراعاتهم النفسية الداخلية.
التفسير الطبي لمرض السرطان :
هو إحدى أكثر الأمراض انتشاراً في عصرنا الحالي وأكثرها فتكاً أيضاً، في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها كان عدد إصابات السرطان في العام 2016 حوالي مليون ونصف حالة، توفي منهم الثلث تقريباً.
و هو عبارة عن تكاثر غير طبيعي للخلايا الجسمية ويمكن أن يصيب أي نوع من خلايا الجسم، يؤدي التكاثر الخارج عن السيطرة إلى نمو كتلة من الخلايا تدعى (الورم) ويمكن لهذه الكتلة أن تضغط على الأعضاء المجاورة مسببة خللاً في وظيفة هذه الأعضاء، كما يمكن لهذه الخلايا أن تنتقل من مكان نشوئها عبر الدم أو السائل اللمفي إلى أعضاء أخرى وتعاود الانقسام هناك ما يؤدي إلى انتشار الورم في عدة أماكن وبشكل متزايد وغير قابل للكبح.
كما قلنا فإن جميع أنواع خلايا الجسم معرضة للإصابة بالسرطان ما يعني أن هناك حوالي 200 نوع مختلف للسرطان (وذلك حسب نوع الخلية المصابة) ، هناك عدة أطوار للسرطان وذلك بحسب درجة المرض وتدرج انتشاره، فالطور الأول أو الثاني يشير مثلاً إلى أن الورم لم ينتشر كثيراً بينما يشير مثلاً الطور الثالث أو الرابع إلى أن انتشار الورم أكبر، ويعد الطور الرابع هو الأعلى من ناحية انتشار الورم.
يعد المركز الرئيس لانطلاق الإصابة بالسرطان هو الخلية نفسها وتحديداً المادة الوراثية المتواجدة في نواة الخلية والمسؤولة عن تنظيم عملية النمو والانقسام وتنظيم الاستقلاب في الخلية وبالتالي فإن أي خلل في عمل المادة الوراثية سيؤدي إما إلى موت الخلية بسبب فشل العمليات الاستقلابية فيها أو ستبدأ الخلية بالانقسام بشكل عشوائي ودون ضابط، مؤدية لتراكم المزيد والمزيد من الخلايا عديمة الفائدة.
هناك العديد من الأسباب التي قد تؤدي إلى تضرر الحمض النووي وذلك بحسب نوع الخلية إلا أن هناك العديد من عوامل الخطورة الشائعة كالتعرض للإشعاعات (الأشعة السينية – أشعة غاما – الأشعة فوق البنفسجية) أو الحرارة العالية أو بعض المواد الكيميائية. هذه العوامل وغيرها تؤدي إلى نشوء طفرات في الـ DNA وبالتالي تضاعف عشوائي للمادة الوراثية وانتساخ لأنزيمات وعوامل نمو خاطئة. والأمر الخطير في السرطان أيضاً هو في حالة إصابته للخلايا الغدية على سبيل المثال لأن هذا الأمر يؤدي إلى إفراز للهرمونات بشكل زائد عن الحد الطبيعي وهو ما يؤدي إلى خلل في وظائف الجسم.(2)
التفسير النفسي للإصابة بمرض السرطان:
حاول بعض الباحثين إدراج السرطان ضمن الأمراض الجسمية التي تقوم الشخصية بدور مهم في إحداثها ، ويؤكد لاشمان (Lashman, 1972) أنه منذ القرنين الماضيين أثبتت الملاحظات الأولية التي أجريت على مرضى السرطان، أن هؤلاء المرضى كانت لديهم استجابات انفعالية سلبية من اكتئاب وحزن ويأس أو فقدان الأمل في الفترة التي تسبق المرض ، وقد أشار باجيت Paget منذ أكثر من قرن : أن الشعور بالقلق وخيبة الأمل يزداد بزيادة انتشار الورم السرطاني في الجسم، وتبعه سنو (Snow 1893) بدراسته التي أجراها على مرضى سرطان الثدي ، وتبين له أن ما عايشه هؤلاء المرضى من أحداث أليمة ، هو ما أدى لهم إلى الاكتئاب والحزن وفقدان الأمل وبالتالي إلى إصابتهم بالسرطان . (5)
من خلال ما سبق نحاول استعراض أهم الدراسات التي تثبت وجود علاقة بين الحالة النفسية و الأمراض الجسدية المزمنة ” السرطان” فيما يلي نجد :
دراسة زياد بركات (2006)، هدفت هذه الدراسة إلى المقارنة بين الأفراد المصابين بالسرطان والأفراد غير المصابين بهذا المرض في بعض سمات الشخصية الانفعالية: الاكتئاب ،قلق الموت ،الانبساط و الانطواء و الاتزان و الاندفاع، و الاضطرابات الانفعالية و التفاؤل – التشاؤم، طبقت لهذا الغرض مجموعة من المقاييس المتخصصة على عينتين من الأفراد: الأولى عينة الأفراد المصابين بالسرطان و بلغ عددهم (48) فردا، و الثانية من الأفراد غير المصابين بهذا المرض و بلغ عددهم أيضا (48) فردا ، وقد أظهرت الدراسة النتائج التالية: أن سمات الشخصية الانفعالية تتوافر لدى الأفراد المصابين بمرض السرطان وفقا للترتيب الآتي: الاضطرابات الانفعالية ، قلق الموت، الانبساط – الانطواء، الاتزان – الاندفاع، الاكتئاب و التفاؤل – التشاؤم. (3)
في دراسة تتبعية قام بها ميكركوستا و بوس Mcrae , Costa & Bosse سنة 1978 على عينة قوامها (400) من طلاب الجامعة الأمريكية من العصابيين و المكتئبين الذين شخصوا بناءا على قائمة ايزنك للشخصية و بيك للاكتئاب، فقد كشفت نتائج الدراسة أن المكتئبين كانوا عرضة للإصابة بالأورام السرطانية المختلفة و ذلك نتيجة لإهمالهم لصحتهم و غذائهم بوجه عام، في حين كان العصبيين أكثر عرضة للإصابة بسرطان الرئتين و ذلك نتيجة لإفراطهم في التدخين نتيجة التوتر و القلق لديهم . (4)
كما أكدت دراسة بيك Peck سنة 1972 على (50 ) سيدة لديهن أورام بالثدي، و تتراوح أعمارهن بين 40 – 60 عاما و باستخدام مقابلة مقننة أظهرت نتائج الدراسة أن 49 مريضة تعاني من القلق، و 37 مريضة تعاني من الاكتئاب، و25 مريضة تعاني من الغضب.(5)
و في دراسة ديرويتس و آخرون Deroatis & al سنة 1983 قام الباحثون بدراسة (215 ) مريضا من مرضى السرطان الذين تم اختيارهم بطريقة عشوائية من بين المترددين على ثلاث مراكز علاج السرطان ، وذلك من أجل تحديد مدى وجود الاضطرابات السيكاترية لديهم ، قام الباحثون بفحص كل مريض و تقييمه باستخدام المقابلة المتعمقة و الاختبارات النفسية المقننة ، وقد استخدم الباحثون في التشخيص الدليل الإحصائي و التشخيصي للاضطرابات العقليةDSM III التي تصدره الجمعية السيكاترية الأمريكية ، وقد أظهرت النتائج أن (47 % ) من المرضى حصلوا على تشخيص من تشخيصات DSM III ، وأن (44% ) منهم تم تشخيصهم على أن لديهم زملة أعراض إكلينيكية ، وأن (03 %) منهم مصابون بالاضطرابات الشخصية و قد كانت (68 %) من التشخيصات السيكاترية تتكون من اضطرابات وجدانية ( الاكتئاب ) ، وقد توزعت الشخصيات الباقية بين الاضطرابات العقلية العضوية (08 %) ، اضطرابات الشخصية ( 07 %) واضطراب القلق (04 %) قد بينت الإحصاءات أن (85 %) من المرضى لديهم حالة سيكاترية موجبة تتمثل في الاكتئاب أو القلق بوصفهما العرضين الأساسيين وقد كانت الغالبية العظمى من الحالات تمثل اضطرابات قابلة للعلاج إلى حد كبير .(6)
خلاصة :
من خلال ما سبق يمكننا أن نوضح أن العديد من الأمراض المزمنة التي يعاني منها العديد من الأشخاص في وقتنا الحالي ما هي إلا نتاج الحالة النفسية خاصة أن بعض الاضطرابات النفسية تمثل عوامل منذرة لظهور مرض مزمن، لهذا فعلى كل شخص أن يدرك قيمة صحته، وان يحاول الاعتناء بها، و أن يبتعد قدر الإمكان عن الانفعال و التوتر.
المصادر :
1. محمد محمود بني يونس ، (2008)، الأسس الفسيولوجية للسلوك ، دار الشروق للنشر و التوزيع ، عمان ، الأردن .
2.من المواقع :
-What Is Cancer?: https://www.cancer.org/cancer/cancer-basics/what-is-cancer.html
– Cancer Statistics: https://www.cancer.gov/about-cancer/understanding/statistics
– ما هو السرطان – الحلقة الأولى – مقدمة : http://www.syr-res.com/article/2133.html
3. زياد بركات ، (2006) ، سمات الشخصية المستهدفة بالسرطان : دراسة مقارنة بين الأفراد المصابين و غير المصابين بالمرض ، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية) ، المجلد رقم 20 ، فلسطين .
4. بدر الدين الأنصاري ، (1996) ، الشخصية المستهدفة للإصابة بالسرطان ، (ط 1) ، كلية العلوم الاجتماعية ، جامعة الكويت .
5. سوسن شاكر مجيد ، (2012) ، العلاقة بين مرض السرطان وبعض العوامل النفسية و الشخصية ، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=304891
6. مفتاح محمد عبد العزيز ، (2010) ، مقدمة في علم نفس الصحة ، (ط 1) ، دار وائل ، عمان ، الأردن.
اعداد: جويرية بريطل
اعداد : حسين الحسين