مقدمة لابد منها
ربما يكون مفاجئا للكثيرين (ومن ضمنهم كاتب هذا المقال) أن السبب في ابتكار ما نطلق عليه الأعداد المركبة (أو العقدية) (ِComplex numbers) هو حاجتنا لحل المعادلات التكعيبية (معادلات من الدرجة الثالثة)، وليس (كما هو شائع) المعادلات التربيعية (من الدرجة الثانية). في هذا المقال وما يليه سنحاول تسليط الضوء على أهم العوامل التي ساهمت في تطور فهمنا للأعداد المركبة والصعوبات التي واجهت الرياضيين في تقبلها كحقيقة رياضية، إذ يكفي أن ظهور هذه الأعداد قد تزامن مع فترة كان تقبل وجود الأعداد السالبة من عدمه لا يزال موضع جدل في الأوساط العلمية، سنتعرف كذلك في هذه السلسلة على عدد من الرياضيين الذين كانت لهم إسهامات عظيمة في تطور هذا العلم، منهم من أصاب حظه من الشهرة، ومنهم من ينتظر أن نزيل عنه الغبار المتكدس على رفوف النسيان، كما سنسلط بعض الضوء يا عزيزي القارئ على جزء من الجانب الإنساني لحياة هؤلاء الذين أناروا دربنا نحو المعرفة، ستجد ما ستعتبره طمعا وقلة وفاء، وستجد كثيرا من غرابة الأطوار، لكن ما أهمية هذا تجاه ما قدموه في سبيل تطور البشرية، ألم يقل عالم الرياضيات أوغستين لوي كوشي (وهو المعروف بغرابة أطواره وخشونة طباعه) قبيل ساعات فقط من موته “يموت الرجال بينما تبقى إنجازاتهم خالدة“، كل هذا وأكثر ياعزيزي القارئ سنتعرف عليه سويا في هذه السلسلة من التاريخ الموجز لتطور الأعداد المركبة.
الخوارزمي وبداية البدايات:
لا يمكننا الخوض في أي حديث عن علم الجبر ناهيك عن حلول المعادلات الجبرية (من الدرجة الثانية على وجه الخصوص) دون التطرق لمؤسس هذا العلم أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي (780-850). في كتابه “المختصر في الجبر والمقابلة” تمكن الخوارزمي من تقديم بيان شامل لحل المعادلات المتعددة الحدود حتى الدرجة الثانية، كما عرض لأول مرة طرقا أساسية “للحد” أو “التوازن” في إشارة منه إلى نقل الحدود المطروحة إلى الطرف الأخر من المعادلة وكذا إلغاء الحدود المتماثلة. اعتمد الخوارزمي في هذا على عمليتين أساسيتين أطلق عليهما اسم “الجبر” و “المقابلة”، والجبر هو عملية إزالة الحدود والجذور والتربيعات السالبة من المعادلة، وذلك بإضافة نفس الكمية إلى كل جانب، فعلى سبيل المثال
تخفض إلى
والمقابلة هي عملية جلب كميات من نفس النوع لنفس الجانب من المعادلة. فعلى سبيل المثال،
تخفض إلى
يجدر بنا التنويه أن الخوارزمي اقتصر في كتابه على الحلول الموجبة فقط، لأنه لم يكن في ذلك الوقت تصور لوجود أعداد سالبة كما أن براهينه في إيجاد هذه الحلول كانت تعتمد بالدرجة الأولى على أسس هندسية.
المعادلات بنكهة إيطالية
عُرفت طرق الجبر والمقابلة للخوارزمي لأول مرة في إيطاليا عن طريق الترجمة اللاتينية لكتاب الخوارزمي التي قام بها جيراردو الكريموني(1114-1187) Gerard of Cremona ثم تلتها أعمال ليوناردو دو بيزانو والذي بات يعرف اليوم باسم ليوناردو فيبوناتشي (1175 – 1250) (Leonardo Fibonacci). هذا الأخير تلقى جزءا كبيرا من تعليمه في مدينة بجاية الساحلية بالجزائر، حيث كان والده يشغل هناك منصب ممثل لتجار جمهورية بيزا، وهناك تعرف ليوناردو على الطرق الجبرية للخوارزمي كما تعلم استعمال الأرقام العربية.
تم الإعتراف بأهمية ليوناردو العلمية لأول مرة في بلاط الملك فريدريك الثاني. في سنة 1225، حين عقد فريدريك الثاني مجلسه في مدينة بيزا، تم تقديم ليوناردو إلى الإمبراطور من طرف صديقه الفلكي دومينيكوس. وهناك كان عالم الرياضيات جون الباليرمي (John of Palermo) قد اقترح عدة مسائل في الرياضيات و التي استطاع ليوناردو حلها جميعا وعلى الفور. نشير هنا، أن إحدى تلك المسائل كانت حل المعادلة التكعيبية: .
يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ إلى أن الشكل العام للمعادلات التكعيبية :
يمكن تبسيطه إلى:
عن طريق تغيير المتغير
هذا التحويل ظهر لأول مرة في نهاية القرن الرابع عشر في مخطوطتين فلورنسيتين. للأسف، لا يعرف حتى الأن من ألف هاتين المخطوطتين. إذا أخذنا بعين الإعتبار فقط القيم الموجبة ل وكذلك بالنسبة للمعاملات و للمعادلة (**) ، سيكون لدينا ثلاث حالات:
ديل فيرو وحله السحري
أول من استطاع إيجاد حل للمعادلة (1) (وربما المعادلتين (2) و (3) ولكن هذا ليس مؤكدا تماما) هو سيبيوني ديل فيرو (1465-1526) (Scipione del Ferro) الذي كان أستاذا في جامعة بولونيا حتى وفاته في 1526م. يجب علينا أن نقول هنا، أن رياضيي القرن السادس عشر بمن فيهم ديل فيرو كانوا يتجنبون ظهور المعاملات ذات الإشارة السالبة، وهو ما يفسر كتابة هذ المعادلات بالأشكال الثلاثة أعلاه. تنص الفكرة العبقرية لديل فيرو أن حل المعادلة (1) يمكن كتابته على شكل مجموع حدين، أي أننا يمكن نكتب المجهول على الشكل ، وبالتعويض في المعالدة (1) نحصل على:
ثم أخضع كلا من و للشرط التالي:
الذي يعطينا بدوره
من المعادلة (4) نستطيع كتابة بدلالة و ، ثم نعوض هذه في المعادلة (5) لنحصل أخيرا على المعادلة:
يكفي الأن أن نعوض بأي متغير آخر لتصبح المعادلة أعلاه، معادلة تربيعية من الدرجة الثانية، والتي نعرف صيغة حلها العام من أيام البابليين، ونجد
باستخدام المعادلة
نحصل كذلك على
وبهذا نستنتج أن المعادلة (1) تقبل حلا من الشكل:
كيف عرف ديل فيرو كل هذا؟ قد يجيبنا الرياضي البولندي مارك كاك (1914-1984) (Mark Kac) على هذا السؤال بقوله :
“في مجال العلوم يوجد نوعان من العباقرة: العباقرة العاديون والعباقرة السحرة. العبقري العادي هو شخص قد يتساوى معي أو معك، فقط إذا كنا أفضل مما نحن عليه عدة مرات. ولا يوجد أي غموض في طريقته في التفكير أثناء العمل. وفور فهمنا لما يفعل، نتأكد من أننا قادرون نحن أيضا على القيام بذلك. وهذا الوضع يختلف مع العباقرة السحرة، فحتى بعد فهمنا لما يفعلون، تظل الطريقة التي يعملون بها غامضة تماما.”
الأكيد أن ديل فيرو بهذه الفكرة ينتمي إلى فئة العباقرة السحرة.
يتبع…
تدقيق لغوي: بولحية يحيى
المصادر:
.B. L. van der Waerden, A History of Algebra, from al-Khwarizmi to Emmy Noether, Springer Verlag, NY 1985
.P. Nahin, An Imaginary Tale, The Story of i the square root of minus one, Princeton U. Press, NJ 1998
.C. Brezinski, Histoires de sciences : Inventions, découvertes et savants