الجرائم وأعمال العنف في تزايدٍ مستمرّ في جميع أنحاء العالم، لكن لماذا؟ هل التغيّرات التي أصابت النظام الغذائي تلعب دورًا في ذلك؟ عندما يرتكب أحدهم جريمة، ماذا نفعل؟ أنعاقبهم أم نبعدهم عن المجتمع لتجنّب حدوث المزيد من الجرائم؟ أم نحاول أن نفهم أسباب السلوك المنحرف لنعيد تأهيل المجرم اِجتماعيًا؟ في عالم إعادة التأهيل، أحد العوامل الذي يتّم اِغفاله تقريبًا بالكامل هو عامل الغِذاء.
لخّص مقالٌ حديثٌ بمجلّة Psychology Today الأمر كما يلي:”إنّ فكرة الطعام السّليم _ أو ما يحتويه من كيميائياتٍ عصبية طبيعية _ قد تعزّز القدراتِ العقلية وتساعد على التركيز وتعمل على ضبط المهارات العصبية العضلية وتجعلك فاعلًا وتنمّي الذاكرة، وتسرّع من ردّة الفعل وتشتّت القلق، بل وربّما تمنع المخّ من أن يشيخ، ليست مجرّد توقّعاتٍ خاملة. إنّ علم الأعصاب المتعلّق بالتغذية مازال في مهده إلّا أنّ نتائجه قد لفتت الانتباه”.
علاقة الجريمة بالغِذاء:
قام البروفيسور Stiven Schoenthaler وهو رئيس قسم العدالة الجنائية وعلم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في أمريكا بدراسةٍ على 1382 مسجونًا من الأحداث، أُخضِعوا لنظامٍ غذائيٍّ تجريبيٍّ يفتقر إلى السكريات، حيث أسفرت نتائج الدراسة على ما يلي: اِنخفاضٌ في السلوك العدواني اللااجتماعي بمعدل 44% بين المجرمين الخطيرين وبحوادث الاعتداء 25 %، وتحسّن في السيطرة على النفس بمعدّل 75% وتراجع عن الانتحار بمعدل 100%.
إنّ الانخفاض الحادّ لسكّر الدم Hypoglycamia الذي يحدث بعد زيادةٍ سريعة في معدّل السكر في الدم الناتجة عن اِستهلاك السكر أو المنبّهات أو الحلويات مرتبطٌ بالتّعب الشديد والعدائية ومحاولات الانتحار، وبمعنى آخر، عندما تكون مكتئِبا، تميل أكثر فأكثر إلى التصرّف بشكلٍ سيّء.
يرى العلماء وفق دراسةٍ نشرتها عدّة صحفٍ عالمية أنّ تحسين العادات الغذائية لأصحاب السلوك العدواني والمجرمين يمكنه أن يقلّل معدّلات الجريمة والسلوك المضاد للمجتمع بمعدّل الثلث، حيث أنّ المعايير البسيطة للتأكّد من أنّ السجناء بمن فيهم القتلة يحصلون على وجبةٍ يومية من الفيتامينات والأملاح يمكن أن تجعلهم أقلّ تهورًا، وتقلّل العنف داخل السّجون وفي المجتمع الخارجي وفق ما ذكره الباحثون في جامعة أكسفورد.
حيث أنّ نزلاء السّجون من الشباب في انكلترا واسكتلندا يتمّ إعطاؤهم مكمّلاتٍ من الفيتامينات كجزءٍ من أوّل دراسة كبيرة لتحديد ما إذا كانت التغذية الجيّدة يمكنها أن تحسّن صحّة عقولهم وتساعدهم على التحكّم في دوافع العنف، وقد اِتّبع هذا المشروع الذي كلّف 14 مليون جنيه إسترليني، دراسةً منضبطة في بريطانيا والدنمارك؛ حيث تمّ التوصّل إلى أنّ المكمّلات الغذائية قد قلّلت من حوادث الاغتصاب والسرقات والجرائم الأخرى بين نزلاء السّجون في مؤسّسات الأحداث.
وُجد أنّ نقص العناصر الغذائية أمرٌ شائع بين الأحداث ذوي النشاط الإجرامي، فقد وجد Stiven Schoenthaler أدلّةً بشأن شيوع نقص حامض الفوليك ( فيتامين C، فيتامين B) لديهم بإضافة عصير البرتقال -فقط- إلى طعامهم، والذي يحتوي على كلّ تلك العناصر الغذائية فأدّى إلى تقليص السلوك المعادي للمجتمع بنسبة %47 بين الأحداث ذوي الأنشطة الإجرامية.
وظهر أيضًا أنّ نقص الكالسيوم، المغنسيوم، الزنك، السيلينيوم والأحماض الدهنية الأساسية يصاحبه زيادة في العنف السلوكي.
يصف علماء الماكروبيوتكThe Macrobiotic الأعراض الناتجة عن الافراط في تناول أطعمة مثل: البيض، اللحوم، الدواجن، الأجبان القاسية والمأكولات البحرية بأنّه سيتمّ رصد فظاظة السلوك المفرطة أو السلوك المدمّر، ويشمل ذلك التقلّبات المزاجية العنيفة وتحطيم الممتلكات، وما إلى ذلك. وكذلك العدوانية اتجاه الآخرين بما في ذلك التظاهر بالقوة مع من هم أضعف أو مضايقتهم بشكلٍ مستمرّ، أو الشجار مع الآخرين، أو معاملة الأطفال الصغار أو الحيوانات أو الضعفاء بقسوة، وأيضًا الغرور المفرط بحيث لا يشعر الفرد بوجود الآخرين أو يعاملهم ببرود.
وفي دراسة أجريت على نزلاء سجنٍ فنلندي، تبيّن أنّ من يتميّزون بسلوكٍ شديد التهوّر لديهم النسبة الأدنى من السيروتينين Sérotonine مادّة غذائية توجد في الحبوب بالمقارنة مع السجناء ذوي السلوك الهادئ، كما وجد أنّ السجناء المتهوّرين يعانون من انخفاض سكر الدم، فقد وجد الباحثون أنّ %81 من السجناء العدوانيين يعانون من انخفاض مستوى السكر في الدم. كما تبيّن أنّ %84 من السجناء المسجّلين عدوانيين جدًّا لديهم انخفاضٌ في مستوى السيروتينين Sérotonine وسكر الدم معا.
كما أشار العلماء إلى أنّه عند انخفاض نسبة السكر في الدم، يعاني الجسم من الإرهاق وسرعة التهيّج وضعف التركيز والعصبية والصداع. قد يرجع الاكتئاب إلى نوعية ما يحصل عليه الجسم من طعامٍ وشراب، فيجب تجنّب المنبّهات من القهوة والشاي والسجائر والسكّر وأنواع الطعام والشراب الغنية بالسكر، فكلّ هذه الأنواع تسبّب القلق وتقلّبات المزاج ونقص الطاقة والتركيز.
رأى علماء اجتماع الجريمة عند دراستهم لسبب انحراف الأحداث أنّه لا يمكن أن يؤدّي النقص في الفيتامينات بحد ذاته إلى الانحراف، وإّنما توجد بعض الأمراض التي تصاحب نقص الفيتامينات، ما قد يكون له تأثيره لاحقًا. فنقص فيتامين B يؤدّي إلى عدم الاتّزان الانفعاليّ وسرعة التهيّج والميل إلى الشجار والمخاوف المبهمة، كما أنّ نقص فيتامين B المركّب يؤدّي إلى نقص سكر الدم الذي يؤدّي نقصه إلى الشعور بالجوع والتّعب وقد يكون الشّعور بالجوع من العوامل الأولى التي تدفع بعض الأحداث إلى انحرافهم الأوّل.
من التجارب التي أقيمت بهذا الصدد كذلك: تجربة دامت سنتين وأجريت على عدّة آلافٍ من الفئران، وقد أعطي خلالها لقسمٍ من هذه الفئران طعامٌ قليل اللحوم وكثير الخضار وغير مطهوٍ على النّار، فلم يلاحظ عندهم أيّ مرضٍ بعد فترةٍ طويلة من الاختبار (فترة السنتين لدى الفئران تعادل خمسة وخمسين عامًا عند الإنسان). ثمّ أعطي القسم الآخر من الفئران طعامًا يشابه طعام الحضارة العادي: أي الخبز الأبيض والّلحوم المحفوظة والخضار المطهوة على النار والمربيات والشاي الأحمر والسكر الأبيض وقليلا من الحلو، ظهرت بعد حين الأمراض ذاتها التي تصيب الشعوب التي تأكل هذه المآكل من أمراض العظام والأسنان والجلد والغدد والعيون والأعصاب والأمراض النفسية. ما يهمّ في هذه التجربة أنّ أفراد هذه العيّنة أخذوا ينزعون إلى الشراسة والتهيّج والرّغبة في الإيذاء والقتال الدموي، أمّا الفريق الأوّل فكان على عكس ذلك تمامًا حيث تمتّع بصحّةٍ جسدية وعصبية ممتازة ونفسية هادئة أليفة ووديعة. كما أجري نفس الاختبار على القردة وكانت النتيجة نفسها.
ختامًا، بالرغم ممّا تطرّقنا له من حقائق في هذا البحث، إلّا أنّنا نجد أنفسنا أمام سؤالٍ عميق وهو: لماذا لم تلقَ هذه النظرية صدًى واهتمامًا و رواجًا، خاصّةً وأنّ مسألة الغِذاء والتغذية ليست بالحديثة فهي موجودة منذ قرون.
المصادر:
– باتريك هولفورد،(2009)، العلاجات المعجزة للصحة النفسية، ط01، شركة دار الفراشة للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان.
– مسعد شتيوي،(يوليو2003)، المخ والذاكرة وسائل طبيعية وغذائية لتحسين عمل الذاكرة ووقاية المخ من أمراض الشيخوخة، مجلة أسيوط للدراسات البيئية، العدد 25.
– ميتشيو كوشي وآخرون ، (2002)، الجريمة والانحراف السلوكي والغذاء، ط 01، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
– ميتشيو كوشي و آخرون، (2002)، أسلوب المايكروبيوتك، ط01، مكتبة جرير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تدقيق لغوي: هاجر بن يمينة